Overblog
Editer la page Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
/ / /

        في حوار مسائي مع رفاق المقهى، أثير موضوع اعتبرت أنه من المفيد توسيع النقاش مع رفاق الحائط الأزرق. يمكن أن أصوغ هذا الموضوع في الإشكال التالي، هل فقدت الكلمات عمقها الوجودي و حمولتها النقدية؟ أثير هذا الموضوع في سياق مناقشة سيادة ثقافة التواصل. فمواقع التواصل الاجتماعي أدخلت الشارع في عمق حميمية البيوت، و أشركت الجمهور في صلب حميمية الذوات. أصبح كل شيء موضوعا للنقاش العمومي. أصبح الخاص شئنا عاما و كل الموضوعات تناقش في واضحة النهار. أصبح الجو "ديموقراطيا" يذكرنا بالمدينة اليونانية مهد النظام الديموقراطي حيث الرأي و الرأي المضاد. و لاديموقراطية بدون رأي و لا ديموقراطية بدون رأي مضاد. أنا ديموقراطي لأنني أقول "لا" كما يحلو لي... أتناول هذا الموضوع لمجرد مسائلة ظاهرة و لمجرد تبين ما إذا كان المبدأ القاضي بوجاهة و حقيقة ما يتم الإجماع عليه، مبدأ لا يطاله النقد.   

عرفت الحضارة الغربية ما سمي بفلسفة "اللا" la philosophie du non  أو فلسفة السلب أو النفي فكان لها أثر فعال في تطور الفكر الإنساني على وجه العموم. فما دلالة كلمة " لا"؟ من الناحية الوظيفية قد تكون " لا " نافية أو ناهية أو جازمة... وقد تكون زائدة و لا محل لها من الإعراب كما قال أهل النحو. أما من ناحية أخرى ، فالكلمة تعبر عن تماهي الذات و انفتاحها على غيرها و عالمها. أنا لست متخصصا في علوم اللغة و بحورها، فقد يقول فقهاء اللغة، أن الكلمة لا تكون كذلك إلا للارتباط الاعتباطي، فيها، بين الدال و المدلول، بين الصوت و المعنى. و هذا كلام بديهي. فالكلمة لا تكون كلمة إلا لأن لها معنى. لكن المعنى قد يتخذ أبعادا متعددة متباينة و مختلفة بتباين و باختلاف الامتدادات الوجودية للذات. كما تختلف دلالة الكلمات باختلاف و بتباين المرامي الكامنة خلفها. بذلك تتباين دلالات الكلمات و تتباعد حسب الذوات. فلا يكون للغة بعد اجتماعي تواصلي خالص بل هي ذات أبعاد سيكولوجية، اجتماعية، فكرية و سياسية...

ليس لكلمة "لا" دلالة لغوية فقط بل من خلالها تتحدد علاقة الذات بذاتها و بغيرها و بعالمها: فحينما أقول لا فإنني لا أرفض إثباتا بل إنني أضع نفسي في علاقة تضاد مع من يتبنى هذا الإثبات. من هنا تعبر كلمة "لا" عن وضع وجودي للذات في علاقتها بغيرها . لا تتوقف الكلمة، إذن، على بناء الذات للمعنى، بربط فكرة بصوت. بل تتأسس الكلمة على التموقع الوجودي للذات و اختيارها لشبكة العلاقات التي تبنيها مع ذوات أخرى.

لكلمة " لا " بعد سيكولوجي و غايات نفسية عميقة. إذ يخبرنا علم النفس، أن من مقومات البناء النفسي لشخصية الطفل استعماله لكلمة" لا". فتمسك الطفل ببرازه خلال المرحلة السرجية من تطوره النفسي، هو رفض للنظافة باعتبارها مطلبا أبويا ينفي رغبة الطفل. رفض الطفل للأوامر الأبوية و الممنوعات الاجتماعية هو سيرورة نفسية لبناء الذات و إثبات الأنا. للرفض، إذن، عمق نفسي، ف"لا" الطفل دالة على الرغبة في تمييز الذات عن غيرها و نزوعها نحو بناء الوعي و إرساء الأنا في مقابل الغير. صحيح أن الغلبة تكون للمجتمع عبر التنشئة و التربية، التي هي إخضاع الطفل لأوامر المجتمع عبر سيرورات الثواب و العقاب. لكن الرفض هو تعبير مبدئي عن الحرية، كخاصية جوهرية تميز الذات الإنسانية. لكن الحرية في هذا الإطار غير منطقية إنها مشاكسة لا عقلية و ميكانزم لا شعوري لبناء الأنا و إثبات الذات.

للرفض بعد فلسفي كذلك. فالعديد من الفلاسفة يعتبرون أن الوعي، لن يتبلور إلا من خلال علاقة جدلية بوعي آخر. لا يمكن لوعي السيد، كما يقول هيجل، أن يتبلور كوعي سائد إلا من خلال نفي وعي العبد كوعي مسود. و يعتبر أب العقلانية الغربية الفرنسي رونيه ديكارت، أن الخطوة الأولى في التفلسف هي الرفض. أن نقول " لا " للانطباعات الحسية و الأفكار العالقة بذهننا و إن كانت عامة سائدة و شائعة لدى عموم الناس. و المعرفة العلمية كذلك لا تتأسس إلا من خلال رفض الرأي و ما يستسيغه الحس العام. إن الحقيقة، إذن، نور ينبلج في علاقة جدلية بالواقع و بموضوعات الفكر من خلال نفي الجهل و إقصاء الوهم الذي يؤسس المعرفة العامة. تصبح كلمة " لا " إذن، شعارا للمقاومة العقلية. و السلب و النفي و الرفض مذهب عقلاني لبناء الحقيقة، و  علامة على الفكر المتنور اليقظ.

للرفض بعد سياسي فهو علامة على انبثاق وعي سياسي في مقابل وعي آخر. إن كلمة "لا " هي أداة سياسية للممارسة الديموقراطية هدفها جعل القضايا التي يطرحها وجود الإنسان موضوعا للنقاش العمومي. بهذا تكون كلمة " لا" مبتدأ و منطلقا للتوافقات الجماعية المؤسسة للنظام الديموقراطي الحقيقي. حيث لا أرفضك لأنك تقول مالا أقوله، بل نتوافق على قول فيه ما تقوله و ما أقوله. لكن للممارسة الديموقراطية شروط. لعل أولها الحوار المؤسس على الإقناع العقلي و تقديس المصلحة العامة. و أما ثانيها فالاحترام الذي يجعل من الخصم محاورا ينبغي إقناعه و ليس عدوا ينبغي نبذه وإقصاؤه. يقول أحد الفلاسفة، " رجل السياسة لا يفكر". و يقصد أن غاياته ليست الحقيقة بل المصلحة و المنفعة. و من جهة أخرى، ألا يمكن أن نعتبر أن الميكانزمات الفكرية التي تحكم إنتاج الخطاب السياسي عامة و الشعبوي على وجه الخصوص، هي نكوص نحو المرحلة البدائية للدماغ؟ ألا يروم الخطاب السياسي ، ما هو سهل ملموس و مجسد ، و هو نزوع طبيعي بدائي للدماغ الإنساني؟ فليس من الصعب على دماغ الإنسان، تمثل ما هو محسوس و ما هو ملموس. لأن الملموس يجسد متطلبات الحياة البسيطة المأكل و التزاوج والأمان... أما ما هو غير ملموس ما هو غير مادي فيتطلب منه مجهودا إضافيا. لهذا يتحدث علماء علم الأعصاب عن قاعدة تحكم الدماغ هي أن ما يتطلب مجهود يرفضه الدماغ و من ثمة يميل طبيعيا نحو مالا يتطلب منه مجهودا. فقد نعجب بلوحة تشخيصية و قد ننفر من لوحة تجريدية رغم حبنا للفن و التشكيل. قد يكون الخطاب السياسي الشعبوي أكثر إقناعا لأنه يجسد المشاكل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و غيرها، في شخص أو ظاهرة. قد يسهل إقناع الناس بأن سبب مشاكل شبابنا هو أن فتياتنا كاسيات عاريات، و أن سبب تفشي الفقر هو عدم تمسكنا بقيمنا الروحية و تفريطنا في قيم التآزر و الصدقات... عوض القيام بمجهود عقلي لتحليل و تشخيص وضعية المجتمع من مختلف النواحي الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية... 

أخلص إلى القول أن التاريخ الإنساني شهد مراحل عرفت نبذ كلمة "لا"، ذلك بمبررات و بخلفيات متباينة فلسفية منطقية أو سياسية. فباسم العقل و المنطق رفض أفلاطون الاختلاف، ذلك لأن الحقيقة، في نظره، واحدة و لا يملكها إي كان. لقد قال لغير أهل العقل أن يسكتوا ليتكلم الحكماء و الفلاسفة. بهذا يكون الرفض لا عقلي وكلمة " لا " غير منطقية. بل لا تكون للمعارضة السياسية أي معنى في المدينة إذا جاءت على لسان العامة و غير الحكماء. فديموقراطية الأسياد هي إقصاء لكلمة "لا " باسم العقل و الحفاظ على الفضيلة و الكمال. و في حالنا من الحكماء في مدينتنا؟

وباسم المصلحة العليا و الحفاظ على النقاء و الصفاء، نبذت الأحزاب اليمينية العنصرية الاختلاف و الرفض و "اللاءات" لتؤسس أنظمة جرت ويلات مادية و اجتماعية و تاريخية. و في وضعنا ،من الأصيل و النقي فينا؟

وباسم الله فرض الرأي الواحد و رفعت السيوف و جزت الرقاب. و في حاضرنا، من يملك الحقيقة منا؟ 

ليس منا من يملك الحقيقة، ليس منا من يدعي النقاء و الأصالة، قال أحد المفكرين الأفذاذ العقل هو القيمة التي لا ينبغي التحجير عنها. لنرفع شعار العقل و لنعد الاعتبار للحوار.   ولنجعل فضاءاتنا الحوارية مجالات لممارسة حقوقنا وواجباتنا. فلنجعل "لاءاتنا" شعارات للحرية تعبر عن وعينا العميق باختياراتنا في بناء ذواتنا ...و لنضمن للعقل يقظته النقدية، كي لا تصبح "لاءاتنا" نوعا من المشاكسة الفكرية و علامة على الفكر التائه.

 

 

 

Partager cette page
Repost0
Published by

تقديم

  • : Le blog de Taoudi El Mustapha
  • : Cours de Philosophie et Randonnées
  • Contact